اللون حضارة
قراءة في أعمال الفنان الكولومبي كارلوس جاكاناميخوي*


تواجه اللوحة التجريدية بصعوبة التأويل لدى المتلقي، لأنها تنقله من منطقة اللون بوصفه دلالة مرتبطة بالشكل إلى خارج منطقة الشكل، إن هذا الارتباط يمكّن المتلقي من أن يتتبع خطى دراما اللوحة، بالمقابل فإن التجريد يحرر طاقة اللون من المحددات الشكلية المسبقة، والطاقة ( الوجه الآخر للمادة في ثنائية الوجود الفيزيائي بحسب اينشتاين ) لها شكلها المربك للوعي الإنساني المحاط بالمادة.
يثق الإنسان بالوجود المادي الذي يحيطه اكثر من ثقته بإحساسه ووعيه الخاص بالعالم وبالتالي ظلت علاقة الإنسان بالفن مقتصرة على ارتباط مفردات هذا الفن بالواقع المادي بشكل مباشر. الأمر الذي يفسر صعوبة مهمة الفنان الذي يغادر الخطاب المألوف في العمل الفني، لذا فإن عليه أن يبحث عن وسائل اتصال اكثر عمقا من خلال الوصول إلى ما يطلق عليه بعض منظري التجريدية بمنطقة الصفاء الروحي، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن على المتلقي خلق علاقة مباشرة بين اللون وبين إحساسه المجرد ليستطيع تبرير العلاقات اللونية في اللوحة، على هذا الأساس لن يحتاج اللون الأصفر في لوحات كارلوس جاكاناميخوي إلى قرص الشمس كدلالة، وهو يشعل فينا هذا الشعور المشاكس الحر. يقول رسام معاصر (احب الابتسامة إنها تذكرني بالألوان المائية ). إن اللون كائن حي وهو ابن العلاقات التي أوجدتها اللوحة ومن الممكن أن يكون اللون الأسود في لوحة ما لحظة استراحة في عيون المتلقي كما في لوحة رقم (1) وهي تعيش هذه الرقصة التي تقودها أنغام لونية زرقاء صارخة في وسط حقل غارق في أمواج الأصفر المشرقة حيث تندفع الأوراق والثمار وحبات الطلع توهجا وتتشظى عنفوانا وبهجة بحيث تتراقص عين المتلقي وهي تلاحق الإشارات المنطلقة هنا وهناك وكأنها العاب نارية في وهج النهار.
يقول لوركا (خضراء احبك خضراء). إن الفنان وهو يخطو إلى أعماقه يصحب اللون طاقة ودليلا وهو هنا لن تسعفه المقاربات المعرفية بقدر حاجته إلى أن يتعرى أمام حقيقته لتكون لوحته ليست مجرد ألوان تحتل فضاء قماشة وانما قصة حياة وشكل حضارة وهذا ما وشت به لوحات الفنان كارلوس جاكاناميخوي ففي لوحاته لون حضارة الانكا، تلك الحضارة التي عاشت في الأعالي قريبا من الشمس. إنها الحضارة المشتعلة نذورا لتصل إلى الصفاء الخالد، والتي تركت خلفها الكثير من الغموض ، لكنها مازالت تعيش في أزياء وطقوس شعوب المنطقة ومازالت تتجدد على قماشة فنانيها المعاصرين . لقد ورثت لوحة رقم 2 بعض تلك الطقوس ، نرى الرمز المقدس المحاط برقصة خضراء هادئة تتماهى فيها ملابس الراقصين بالأقراط والحلي . الكل يحتفي بالرمز المتوسط فضاء اللوحة في فرحة وجدت متنفسها في طرف مخفي على تلك الأرض.
يبدو الاحتفال اللوني في لوحة رقم (3) اكثر بهجة وعنفوانا. يكاد المتأمل يلمح الطيور و أقنعة الراقصين هنا وهناك حيث اللون الأخضر الممهور بإشراقة صفراء تتسيد الفضاء، انه اللون الإله في معبد تنتظم فيه بقية الألوان في طقس صاخب صريح إن طقوس العبادة هنا ليست طقوسا جنائزية ولكنها طقوس فرح غامر. إنها صلاة راقصة.
حتى في لوحات الغروب يتخذ اللون الأصفر موقعه مخرجا لمسرح الحدث وهو يستخدم التدرجات اللونية للبرتقالي والأحمر والبنفسجي أداة لغروب بهيج , (لوحة رقم 4،5) . على الرغم من الفضاءات اللونية المنفتحة يبقى المشهد مدينا لللون الأصفر بفرحه. إن اللون الأصفر هو لون الحياة على هذه الأرض كما كان في زمن حضارة الانكا هذه الحضارة التي احتفت بقرص الشمس وحبات الطلع الصغيرة بوصفها شكلها المنتظم في عالم تتفتح فيه الطبيعة إلى مدياتها الرحبة. إن هذا الإشراق وهذا الإيمان هو الذي أعطى هذه الحضارة عظمتها و أعطى للوحات كارلوس جاكاناميخوي بهجتها المتجددة.


 


( لوحة رقم 1 )

 


( لوحة رقم 2 )

 


( لوحة رقم 3 )

 


( لوحة رقم 4 )

 


( لوحة رقم 5 )

 


( لوحة رقم 6 )


إضاءات:

• * ولد في سانتياغو 1964
• حاصل على الماجستير في الفن من جامعة كولومبيا / بوغوتا في عام 1990
• درس الفلسفة والأدب في جامعة لاسالي في بوغوتا
• أقام العديد من المعارض في كولومبيا وخارجها كما حصل على العديد من الجوائز التقديرية
• تتوزع أعماله في العديد من المتاحف الفنية في كولومبيا وخارجها.

 


رجوع