المدينة ..فارغة
(قراءة في أعمال الفنان الكوبي غوستافو اكوستا)


تلبس الروح المكان بشكل أو بآخر، وبالتالي يصبح السلوك الإنساني انعكاسا لهذه العلافة المتعشقة ، والمدينة باعتبارها المكان الذي تتلبسه روح الفنان المعاصر تفرض عبئها عليه، وهو الكائن الذي تجعله شفافيتة متلبسا للمدينة حد شقوق الجدار وتآكل الأرصفة ، لكن روحه وهي تسقط تلبّـسها على القماشة تمارس تمردها وتبقي على اللوحة فسحة لأنينها وهي ترزح تحت وطأة المدينة.

باتخاذ هذه المقاربة مدخلا، ومن خلال مقارنه أعمال الفنان (غوستافو اكوستا) مع اللوحات التي اتخذت المدينة موضوعا لها على مر الزمن، سأحاور لوحات هذا الفنان الكوبي المعاصر، وسيكون مهما الإشارة هنا إلى أن رسم المدن برز في أواخر القرن السابع عشر، من خلال أعمال فنانين من أمثال كاناليتو canaletto (1697ـ 1768) و فرانشسكو غواردي Francesco guardi (1712ـ1793 ) ، حينها كانت لوحات المدن تطلب من قبل بعض السياح ليصحبوها إلى بلدانهم كتذكار لزيارتهم لبعض المدن السياحية كما يذكر الناقد فيرن ريسك شابلي fern rusk shapley . هذه الأعمال كانت تجمع المدينة والإنسان في مناخ حيوي صاخب حتى لتكاد تسمع أصوات الناس وأجراس الكنائس وموج البحر . كانت تلك الأعمال تحتفي بالمدينة والإنسان الذي يعمّرها واصبح لها قيمة توثيقية بالغة الأهمية.
مارس فنانو الانطباعية رسم المدينة أيضا ولكن من خلال منظور مختلف إذ كانوا عبر محاولاتهم المستمرة لدراسة الضوء والظل واللون يرسمون المدينة وهم خارج أفق سيطرتها وجبروتها فكأنهم يعاملونها بندية وهم يزرعون الوانهم على واجهات كاتدرائياتها وملاعبها تحت شمس ساطعة نقية حينا أو تحت سماء ماطرة حينا آخر وفي الحالين كانت روحهم تستريح خلف فرشاتهم تتأمل المدينة بحيادية . هذا الاحتفاء بعلاقة الإنسان والمدينة كما في لوحات فناني البندقية ( كاناليتو وغواردي ) والحيادية في لوحات الانطباعيين، غير موجودة في أعمال غوستافو الذي تشي علاقته بالمدينة بسريالية مبطنة .
تقوم السريالية على أجواء وعلاقات حلمية عير محتملة على ارض الواقع لكن لوحات غوستافو تقوم على إلغاء أحد طرفي العلاقة ـالإنسان ـ مع الإبقاء على المناخ الحلمي ، و إذا كانت مدنه على القماشة محاولة لاستعادة صور مدينته هافانا التي تركها كما يشير الناقد ماريزول مارتيل Marisol martell ، أو كانت رؤية لعالم قائم على اختلال العلاقة بين المدينة والإنسان فالحصيلة تبقى إننا أمام مدن حلمية محتفية بهندستها مكتفية بجدرانه وأروقتها . علاقة الإلغاء التي تمارسها مدينة غوستافو للإنسان تواجهها فرشاة متمردة على سكونها ورتابتها فتنتفض على سماء اللوحة بضربات لونية كثيفة وحادة في محاولة لخلق حركة في روح المكان الخاوية ، هذه الضربات أتت بديلا عن الصرخة التي نحبسها في صدورنا أمام مدنه إذ يغرينا فراغها بالصراخ لنستنطق جدرانها أو كما يقول الناقد ماريزول مارتيل تشدنا لنملا فراغاتها .
لقد رسم غوستافو مدنه وكأنه يرسم لوحات (حياة ساكنه still life) فيضع مدنه بموازاة الأواني والأقداح ! ليواجه الإلغاء الذي تمارسه المدينة على الإنسان بتسطيح موضوعي . انه لا يحتفي بالمدينة بوصفها قيمة اجتماعية فرسم مدنه من خلال لوح ألوان تغلب عليه الألوان الباردة واحيانا بأحادية إيقاع ثقيلة لا يكسرها إلا الفضاءات المفتوحة .
هل العمود المكسور في لوحة (رقم 3) يبرر مقاربتنا في مفتتح المقال (المكان هو الوجه الآخر للروح) فيجد مكانه المبرر في رؤيتنا ؟ إننا لا ننظر إلى انكساره كفعل مشوه للمنظر وانما كفعل درامي مؤثر يمثل مواساة لما ينكسر في أرواحنا وهي تعيش غربتها في هذه المدينة . بل ربما ننظر إليه وكأنه الشيء الحقيقي الوحيد في هذه المدينة الموحشة حتى في حدائقها .
لماذا نتعاطف مع مدن غوستافو اكوستا رغم وحشتها ووحدتها ؟ ألانها أصبحت تمثل الصورة الموازية لارواحنا التي تسكنها الوحشة رغم حرصنا على هندستها المهيبة ؟ ربما لأن غوستافو وهو يترسم خطى مدينته الحلم في طريق مروره على القماشة وضع روحه على اللوحة، هذه الروح التي احب جدرانها لكنه وهو يلملم عدته للرحيل نسي أن يلونها بالحياة.


ـ
( لوحة رقم 1 )

 


( لوحة رقم 2 )

 


( لوحة رقم3 )

 


( لوحة رقم 4 )

 


( لوحة رقم 5 )

 


( لوحة رقم 6 )

 


إضاءات:

• ولد غوستافو اكوستا في هافانا، كوبا 1958.
• دَرسَ في مدرسة الفنونِ البصريةِ سان أليخاندرو ، هافانا وفي معهد الفن العالي( ايسى دي هافانا)
• ينتمي إلى جيل الثمانينات في كوبا ، وهو الجيل الذي ترك بصمة واضحة على مسيرة الفن في كوبا.
• غادر هافانا وتنقل بين البلدان ليستقر خارج بلده كوبا.
• أقام العديد من المعارض الشخصية والمعارض المشتركة داخل كوبا وخارجها
• حاز على العديد من الجوائز الفنية في كوبا و إسبانيا و الدومينيكان و الإكوادور

المصادر:

• الانطباعية جان ليماري : ترجمة فخري خليل
• later Italian painting by fern rusk shapley
• Gustavo acosta, architecture of memory by Marisol martell

 

 

رجوع