المدينة بين انحسار الفضاء وحضور اللون
قراءة في أعمال الفنان محمد جاسم الزبيدي*


رغم أن المدينة يمكن أن تمثل الوجود المرادف للوجود الإنساني على القماشة، لكنها لم تحض من خلال هذا الوصف بذلك القدر من التركيز في الفن التشكيلي ، إذا ما استثنينا أعمال كاناليتو و فرانشسكو غواردي* وفناني الانطباعية الذين وجدوا في فضاء المدينة مساحة مهمة لاحتضان تجاربهم اللونية.
هذا الأمر لا نجد مثيله في الفن العراقي الحديث، فطالما مثلت المدينة الوجود الأكثر التصاقا بروح الفنان العراقي وهو ينتقل بها بين مناخات لونية تعبيرية في لوحات فرج عبو إلى حاضنة لمناخ انطباعي مشحون في أعمال عطا صبري ثم تتحول إلى أغنية تكعيبية مشرقة في أعمال حافظ الدروبي وهي في هذا كله تحتفظ بسيطرتها التكوينية على سطح القماشة، هذا الأمر نجد نقيضه في أعمال محمد جاسم الزبيدي حيث تطلع علينا المدينة مستلبة تسبح في فضاء تكويني يبدد حضورها الحقيقي إلى وجود منزو.
يفرض المكان وجوده على الفنان والمبدع باعتباره مركز الكون الحيوي ومصدر الطاقة المحرك لمدركاته في كل الاتجاهات بل وفي كل الازمنه. إن المناخ المكاني للمبدع هو الذي يحرك رد فعله الإبداعي فلا إبداع بدون انتماء للمكان فهو الذي يهندس المشاعر لدى الفنان. إن الروح تتشرب رؤيتها من خلال بيئتها، فإذا كان للمدينة كل هذا الحضور وهذه القدرة على توجيه طاقة الفنان، أفلا ينعكس هذا على رؤيتنا لتشكل عالم محمد جاسم الزبيدي؟ هل انحسر الوجود الإنساني في عالم محمد إلى درجة أن تتحول فضاءات المدينة الرحبة إلى كيانات تتلاصق في محاولة للنجاة من محيط يستلبها ويمنحها مساحة مربكة على سطح القماشة؟ إن المدينة فضاء ، والفضاء ثلاثي الأبعاد فما الذي جعلها لدى محمد الزبيدي كتلا ثنائية الأبعاد ملقاة بتسطيح على القماشة؟ أشرت في مقالة سابقة* كيف إن علاقة الإنسان بالمدينة في لوحات الفنان الكوبي غوستافو اكوستا تعيش حالة من انعدام التوازن بين عالميهما، ولكن مدينة اكوستا حاضرة بقوة ..بقوة الحنين وبالتالي فان اختلال العلاقة لا يلغي حضورها المؤثر ودلالاته بالنسبة للفنان و المتلقي ، ولكننا أمام مدن محمد نصاب بالإحباط فعالمه ضائع على قماشة الحياة لان المدينة ( حاضنة الوجود ) مستلبة على قماشة أيامه.
رغم ذلك كله يبقى هناك ما يشدنا في لوحات هذا الفنان وربما يتمثل في المناخ اللوني المكتنز الذي يشي بحيوية تمنح المتلقي رغبة التمسك بمدنه ، إنها حقيقة حاضرة في كتله اللونية التكعيبية الطابع ، تمنح هذه الكتل اللونية حضورا مكثفا للجدران يقاوم حالة التهميش القسرية التي يعيشها وطنه/مدينته بل انه في بعض اللوحات يكون اكثر امتدادا على سطح القماشة وهي تسكن محيطا معشبا فتتدفق الألوان بحيوية أمام المتلقي وهي تترسم امتدادات واثقة وجريئة لتغني بتنوعها عالم اللوحة.
قد يبرر البعض مقاربة محمد جاسم للمدينه من خلال منظور جوي يمنح صورة مدينته مثل هذا الحضور ، لكننا رغم ذلك لا نستطيع أن نتجاوز علاقات اللوحة وهي تمثل ارض صراع بين المدينة (كما هي حاضرة في ذاكرتنا) وبين الخلفية التي تمارس سطوتها على هذا الإدراك فتحجمه وتربكه فيقترن كل هذا بصورة مدينة/ وطن عاش مشتتا سليبا في وعينا، وطن يستمد حضوره من إنسانيتنا التي همّشت وظلت تتناهبها تيارات الشقاء والوحدة ليتحول الكيان المتماسك إلى كتل متفرقة والحضور الطاغي إلى انحسار وتشتت ، إنها صورة الوطن الذي أرهقته مساحات ضياعنا فلم يجد على قماشة محمد جاسم الزبيدي ما يتشبث به إلا اللون المتمسك بمساحته وهو يدافع عنه بضربات واثقة صارخة أحيانا ومشرقة أحيانا أخرى ليمنحنا فرصة للايمان بحقيقته اللونية المشبعة وليتمكن المتلقي في ما بعد من لمّ شتات نظراته ليركزها على مساحات صلبة لألوان تزرع الأمل بقوتها وبهاء حضورها.

 


( لوحة رقم 1 )

 


( لوحة رقم 2 )

 


( لوحة رقم 3 )

 


( لوحة رقم 4 )

 

إضاءات:

*فنان تشكيلي عراقي ولد عام 1965 ، خريج معهد الفنون الجميلة ، عضو جمعية الفنانين التشكيليين.
* من فناني القرن الثامن عشر ، اشتهروا برسم مناظر المدن.
* انظر " المدينة فارغة –قراءة في أعمال الفنان الكوبي غوستافو اكوستا. جريدة الأديب/ العدد 28
 

 

رجوع