الوجود جسد على القماشة
قراءة في اعمال الفنانة الانكليزية سيسلي براون 1969


اذا كانت اللوحة هي الحياة ( كما يشير هنري ماتيس ) فان الجسد الانساني على قماشة الرسم يمثل حضور الكيان الانساني عليها ، هذا الحضور الذي مر بمراحل متغيرة عبر الحقب الزمنية تبعا لشعور الفنان بقدرة هذا الكيان على تحقيق الحضور الفاعل على واجهة الحياة، فكان ان ضاهى الجسد الانساني الكمال في اعمال عصر النهضة ليعكس ايمان الانسان بقدرته ، هذه القدرة التي شكك فيها الاسلوب المتكلف (mannerism) فاظهر الاجساد البشرية على القماشة في اوضاع غير طبيعية مبالغ في سلوكها وقياساتها واجوائها ، لكن هذا الوجود استعاد بعضا من توازنه في فن القرن السابع عشر الذي ادخل النور على اللوحة فاعطى الجسد الانساني اشراقة القوة والحضور ولكنه في الوقت ذاته لم يتخلص من ارث المعاناة الذي تركه الاسلوب المتكلف فاصبح الانسان في الكثير من لوحات روبنز و رمبرانت في حالة صراع دائم، وان كان الحس البطولي حاضرا بقوة والايمان بالانسان يعطيك الثقة بان المعركة ستكون لصالحه وهذا ما تعكسه الاجساد النضرة القوية وهي تحمل بصمات مايكل انجلو وكانها تستعين بروح عصر النهضة في صراعها.
حين نصل الى الرومانسية يتخذ الصراع شكلا اكثر شراسة فابطال ديلاكروا يواجهون عالما شرسا حيث " نرى في كل مكان. . . الخراب والمذابح والنار، كلّ شيء يشهد على الهمجية الأبديّة والفساد البشري . الدخان يتصاعد والمدن تدمر وحناجر الضحايا تقطع والنساء تغتصب والأطفال يقذفون تحت الخيول أو تبقر بطون الأمهات ؛ هذه السلسلة اللامتناهية من المعاناة حيث تمجد ترتيلة العنف " كما يصف الشاعر بودلير عالم لوحات ديلاكروا، ويبدو ان هذا الصراع يتواصل على قماشة سيسلي براون ، الفنانة التي تشكل قماشتها الوجه المعاصر لقماشة ديلاكروا حيث الاجساد المستباحة والمواجهة المدمرة بين الانسان ومحيطه لكن اجساد سيسلي مشوهة غائبة الملامح منزوعة الحضور وهي في لحظة المواجهة . ان انسان سيسلي غير قادر على استحضار كيانه في معركة يواجه فيها عدوا مجهولا ، مجموعة كيانات غريبة تلتف وتتكور حوله مخلفة عالما مربكا . ان الانسان في عالم براون يتجسد على قماشتها جسدا مستلبا مضيع الملامح وكأن قوى المجهول تطوّح به في دوامة لا يستطيع التخلص منها . ان الصراع في لوحات ديلاكروا يفرز عناصره ، صراع واضح الملامح ، يستطيع معه الانسان ان يميز عدوه ، لكن الانسان في عالم سيسلي لا يعرف ماذا يصارع .
لقد مكن الاسلوب التشخيصي التجريدي الذي تعاملت به سيسلي براون من عرض موقفها بطريقة موحية وانّ نظرة متاملة تمكن المطالع من اكتشاف ان سيسلي براون اقتربت من عناصر التكوين في لوحات ديلاكروا وبعض لوحات الباروك لتأكّد على موضوع الصراع المستمر.
ان هذا الاستلاب لا يتغير حتى في لوحاتها التي تمارس طقوسا بهيجة وان كان الحضور الجسدي اكثر حضورا واثارة . هل تمثل لوحات سيسلي براون المرحلة التي وصلت اليها مواجهة الانسان مع الحياة حيث تبدو مفردات الحياة وبضمنها احساسنا بالكيان الانساني غامضة تعاني الضمور الوجودي فلا يستطيع وعينا ان يحتفظ بصورة الوجود الحقيقي فيمارس في اعماقه ما تمارسه الحياة المعاصرة على الوجود الانساني من تقزيم وتشويه . ان مقارنة اعمال سيسلي براون باعمال ديلاكروا تمثل رحلة الوجود الانساني على قماشة الحياة من جراءة المواجهة القاسية الى تراجع الروح البطولية في مواجهة غير متكافئة.


 


( لوحة رقم 1 )

 


( لوحة رقم 2 )

 


( لوحة رقم 3 )

 


( لوحة للفنان ديلاكروا )

 

 

رجوع