الرؤية الكاريكاتورية
في أعمال الفنان الكولومبي فرناندو بوتيرو


لم تشكل الهيئة البشرية منطقة اشتغال رؤيوي حيوية للفنان التشكيلي على الدوام، وكانت أول المحاولات الجادة في هذا المجال متمثلة في أعمال فناني الأسلوب المتكلف mannerism من أمثال بارمجيانينو و تنتوريتو وال كريكو حيث مارس فنانو هذا الأسلوب تشويها مقصودا للهيئات والأوضاع البشرية في محاولة لنقل شكهم بالإنسان كقوة فاعلة على النقيض من فن النهضة الذي أعاد للإنسان مكانته في صنع الحياة . لم تستمر هذه المقاربة في أعمال الفنانين لقرون عدة سوى في الأعمال المتأخرة للفنان الإسباني فرانشسكو دي غويا، بمعنى آخر إن الأساليب الفنية التي تلت الأسلوب المتكلف كالباروك والركوكو مرورا بالكلاسيكية الجديدة والرومانسية والواقعية والانطباعية لم تنظر للهيئة البشرية بوصفها مركزا للرؤية وانما جزءا لا يتجزأ من مكونات اللوحة الفنية ، لكن مع ظهور التعبيرية والتكعيبية تعامل الفنان التشكيلي مع الهيئة البشرية بشكل اكثر فاعلية وجرأة وتوالت محاولات هنري ماتيس و جورج روو و بيكاسو و فرناند ليجيه في التركيز على هذه المقاربة للرؤية التشكيلية وقد استفادت الواقعية الاشتراكية ممثلة بأعمال دييغو ريفيرا الفنان المكسيكي من تعامل بيكاسو و فرناند ليجيه فعمل على تضخيم الهيئة البشرية من اجل خلق إحساس مكثف إزاءها واذا كانت لوحات فرناند ليجيه او لوحات دييغو ريفيرا جعلت من تضخيم الهيئات البشرية رؤيتها المبنية على تبني هذه الهيئة ومنحها حضورها الذي تستحق على القماشة فان الفنان الكولومبي فرناندو بوتيرو وظفها لابراز رؤيته الساخرة تجاه الإنسان في مقاربة طفولية محببة ومدروسة . تشبه سيرة هذا الفنان الكولومبي إلى حد كبير سير أساتذة الفن الكلاسيكيين الذين عملوا في بداية مسيرتهم الفنية على زيارة الدول التي تحتفظ بروائع الفن الكلاسيكي في محاولة استلهام ما يعزز رؤاهم الفنية ويصقل فرشاتهم المتعطشة لاغناء ضربتها وألوانها ويشير الناقد سلفيو اكاستوس إلى أن فرناندو بوتيرو درس الفن في إيطاليا و زار لندن ومدريد و أبدى تأثره بالفنان الإسباني فيلاسكويذ وهو من اشهر رسامي الباروك في البلاط الإسباني حيث أنجز أعمالا ما يزال تأثيرها حاضرا على عمالقة الفن الحديث ويجدر الذكر ان بيكاسو في إحدى أعماله انتج محاكاة معاصرة برؤية خاصة للوحة فيلاسكويذ ( وصيفات الشرف ) . المهم في هذا الأمر أن التأثير الكلاسيكي واضح في تكوين لوحات بوتيرو التي تجمع بين الرصانة الكلاسيكية والرؤية المعاصرة وهو الأمر الذي كان له ابلغ الأثر في تجسيم حس السخرية في أعماله فالمعروف أن الأسلوب الكلاسيكي على قدر كبير من وجاهة الأداء وصرامة التقيد بالقياسات الواجب اتباعها في رصد التفاصيل صغيرة كانت أم كبيرة إضافة للتكوين المتوازن لخدمة نبل الموضوع ، إن المتلقي أمام اللوحة الكلاسيكية يتملكه نفس الإحساس مع تنوع اللوحات وتنوع أساليب الفنانين انه الإحساس بالهيبة والامتلاء ، وهذا ما أراده بوتيرو حين جعل من تكوين لوحاته ذا مسحة كلاسيكية واضحة ليزيد الإحساس بالمفارقة عند المتلقي وهو يشاهد شخوصه المنتفخين والمحتفين بوجودهم المضحك على هذه الشاكلة . تشكل الهيئة البشرية البالونية التي تقف وراءها نرجسية طفولية محببة، الموضوع الأساس في أعمال هذا الفنان ، انه ينظر إلينا والى نفسه نظرة طفل مشاكس وظف الهيئة (التي أريد لها من خلال أعمال مجدت الإنسان ) لتكون شاخصا بارزا بشكل مبتكر لتعميق إحساسنا بالمبالغة التي نقنع أنفسنا بها . إن المتلقي أمام شخوص بوتيرو وهو يلاحظ اشتراكهم بنفس الهيئة المتجسدة بامتلاء الوجوه مع ضياع الملامح وصغر العيون الساهمة وتخمة الأجساد لا يملك وهو يرثي لضياع وجودهم الحقيقي في هذا الوجود الجسدي المتخم . هنا يجب التركيز على الفنان في كل شخوصه بضمنهم شخصه هو في لوحة الرسام والموديل يمنحهم عيونا نقطية كالأزرار لإيصال ضياع رؤيتهم وقصرها ، إلا انه يتعاطف معهم في محاولتهم إقناع أنفسهم بحجم حضورهم الذي يحتل قماشة الفنان لكن هذا الحضور لا يرسخ إلا الإحساس بالعبء الذي تحمله أرواحهم الطيبة، لقد ساعدت الهيئات البالونية في تمرير الإحساس للمتلقي بان هذا الامتلاء على سطح القماشة هو امتلاء غير حقيقي ولكنه يبدو كافيا لشخوص فرناندو بوتيرو ليبرر وقوفهم أمامنا وهم يمارسون أوهام حياتهم اليومية.
تذكر الموسوعة البريطانية ان فرناندو بوتيرو تأثر بأعمال فنان الواقعية الاشتراكية دييغو ريفيرا الذي وظف الهيئة البشرية في تصوير إيمانه بالإنسان المكسيكي المكافح . فهل تمثل المحاكاة البالونية لأجساد ريفيرا نقدا مبطنا لتلك المقاربة ربما ولكنه على صعيد آخر جعل من السلوك الاجتماعي مادته في هذه الرؤية فالأسرة هي تبقى أولا وأخيرا الوسيط الاجتماعي الأقرب والأكثر تأثيرا في مسيرة الإنسان .

 


( الرسام والموديل )

 


( العائلة )

 


( الموسيقيون )

 


( رجل مع كلب )

 

 

رجوع