التنقيب
الرومانسي
قراءة في تجارب من الفن الروسي المعاصر
بعد تقسيم الاتحاد السوفيتي أصبحت الصرعات السياسية والفكرية
والفنية في الغرب هي المهيمنة على رؤية الكثيرين ، و انصرفت أنظار
العالم عن الأدب والفن الروسيين ، رغم أن الكثير يعلم أن للفن
خطابا متجاوزا منفتحا لا يصح أن يجرّ إلى منطقة الإيديولوجيات
المتناحرة ، فاصبح الاهتمام بالفن الروسي المعاصر ـ وهو فن على قدر
من الأهمية ـ منطقة مهجورة.
تظهر أهمية الفن الروسي المعاصر من خلال تبني خطاب مغاير ، متمثل
في محاولة لإعادة اكتشاف الحياة برؤية انطباعية خاصة ، إذ إن
الفنان الروسي اصبح مقتنعا بان الحركات و الصرعات الفنية المعاصرة
أصبحت تكرر نفسها و بغرائبية غادرت مناطق البحث الحقيقي للمتلقي .
يقول الناقد أي ريستوفسكي وهو يتحدث عن أعمال الفنان فاليري
ازوميوردوف (لقد أيقن أن الفن المعاصر قد وصل إلى طريق مسدود وهو
ألان على أعتاب قيادة نهضة فنية انطباعية جديدة).
ينظر الفنان الروسي إلى الموضوع بعيون عاشقة وتعامل مع الألوان
مسرف في حساسيته وغناه . موقنا بان الجرأة و التشظي في عوالم
اللوحة لا يعنيان الابتعاد ، بل بالعكس ، ففي وقتنا الحاضر المفرط
في ابتعاده عنا تصبح قمة الاختلاف هي العودة إلى ما يفترض أن نألفه
( الحياة الضائعة في العيش).
امتد هذا التصور إلى اللوحات الشخصية والتي تعامل معها الفنان
الروسي من خلال مقاربة جديدة . تقول الناقدة اولغا كوزيفنيكوفا: (يَعتقدُ
الفنان اندريه ماركن بأنّ اللوحة الشخصية هي الصورة التي تميل لها
دوما ِ، والتي تحبها العائلةِ، و تَمْلأ بيتَكِ بالنورِ ولا تترك
في قلبِكِ إلا البهجة والفرح وهي الجوهرة التي تتناقلها الأجيال) و
يرى اندريه ماركن (وقد رسم العديد من اللوحات الشخصية لنساء بلدته)
إن كُلّ امرأة جميلة بذاتها ُ، كُلّ وجه ملئ بانسجامه الخاصِ، لأن
لَهُ إحساسا فريدا مِنْ التناظر الروحي ِ، و يَقُولُ (بأنّك يَجِبُ
أَنْ تُصبحَ مَسْحُورا بنموذجِكَ لتخَلْق منه قطعة فنية عظيمة وليس
هناك طريق آخر. حينها كُلّ ضربة يَضِعها المتأمل المَسْحُورُ على
الجنفاصِ سَتَكُونُ شلالا من شراراتِ الألوانِ الحقيقيةِ.
( كُلّ صورة لَها قصّتُها، لكُلّ امرأة تصوّرَ على الجنفاصِ لن
تكونَ هناك فقط ، لكن أيضاً ستحتل مكانها في قلبِ الفنانِ. لأنه
قَبْلَ أَنْ يَبْدأُ برسم موديله يُحاولُ أَنْ يَتعلّمَ أكثر حول
نموذجِه، ويحاول ان يتفهم عالمه ).
رغم إن تجارب الفنانين موضوع البحث متنوعة فإنها تلتقي في منطقة
مشتركة وهي: الإمساك بخصوصية المنظر العاطفية والاندفاع بها إلى
الأعماق من خلال مساحات مشحونة بطاقة لونية كبيرة ، معطية الزخم
اللازم لتشبع العاطفة اللونية للمتلقي .
يرى الفنان الروسي ايفان كوتوكوف بان هذه الأعمال لا تمثل مناظر
طبيعية و ليست أعمالا واقعية. ولا تمثل أسلوبا جديدا كما يصطلح
عليه في الأدبيات النقدية . انه : تنقيب رومانسيّ. وهو بذلك أعطى
وصفا دقيقا لهذه الأعمال .
تجدر الإشارة بان الرومانسية (بوصفها توجها فنيا ظهر في أوائل
القرن التاسع عشر في الاتجاه المضاد للكلاسيكية الجديدة ) تعتبر من
قبل بعض النقاد ؛ اقرب إلى حالة من الوعي منها إلى كونها أسلوبا
فنيا ، رغم ابتعادها عن القيود الصارمة للكلاسيكية الجديدة
المتمثلة بالاهتمام بالخط بوصفه المكون الأساس للعمل الفني . فكان
أن احتفت الرومانسية باللون على حساب الخط واكتسبت المساحات
اللونية حرية اكبر . يقول الرسام ديلاكروا : "إن عمل الرسّام بدون
تلوين هو إيضاح وليس رسم .إذا كان القصد عملا غير النقش فاللون
بالتحديد هو الأساس الجوهري للرسم فاللون يعطي مظهر الحياة."
ما هي المقاربة التي اشتغل عليها هؤلاء الفنانون في هذا (التنقيب
الرومانسي) ؟ من خلال إطلالة سريعة على الشواخص المهمة في تاريخ
الرسم يستطيع المتابع من أن يلاحظ ان هذه الأعمال جمعت بين كثافة
فرشاة فان كوخ والتي حاول من خلالها تجسيد إحساس اعمق (اكثر كثافة
) وبدائية ألوان غوغان التي عبرت عنها تجاربه في بنما وجزر
المارتينيك و شاعرية ألوان فناني مدرسة البندقية في عصر النهضة (تيتيان
وجورجيوني وتنتوريتو)
ولكن الفنان الروسي يذهب في ألوانه إلى مديات ابعد وكأنه يرسم
عوالم موازية ، الأمر الذي يمنحك إحساسا بآلفة المعالم وغربتها في
آن واحد . إنها مدن وانهار تعيش ألوانها في ذاكرتنا العاطفية .
إنها مغامرة حقا أن نشتغل على مفردات مألوفة في زمن الإشارات
المتجددة ، لذا كان لابد من إعادة اكتشاف هذه المفردات بإحساس
مغاير .
هل يمثل ذلك إعادة لصياغة التمرد الرومانسي ذاته حينما وقفت
الرومانسية بوجه الكلاسيكية الجديدة التي كانت تمثل التوجه الرسمي
آنذاك ؟ من الجدير بالذكر إن بعض هؤلاء الفنانين (فاليري ازمريودوف
و ياكوف كوزلوف ) كانوا خارج المؤسسة الفنية الرسمية خلال الحكم
الشيوعي السابق ، وقد يعكس ذلك أيضا إيمان الفنان الروسي بصوت
الطبيعة المدهش وبقدرة الإنسان على الاستمرار . يَعْتَقِدُ الرسّام
ياكوف كوزلوف Yakov Kozlov “ إن الصورة يجب أن تمر على قلب الرسام
.” إنه مؤمن بالإنسان الروسي (لقد كانت الحياة صعبة في كل الأوقات
ولكن للإنسان الروسي قلبا لا يتخلى عن كبريائه ولا يفقد طريقه).
( لوحة الفنان فاليري ازميورودوف )
( لوحة للفنان اندريه ماركن )
( لوحة للفنان ايفان كوتوكوف )
( لوحة للفنان ياكوف كوزلوف )
رجوع
|